فصل: تفسير الآية رقم (99):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (98):

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}
{ذلك} أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه: {كلما خبت زدناهم سعيرًا} [الإسراء: 97] أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا إلخ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه {جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَفَرُواْ بئاياتنا} القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقًا فيشمل ما ذكر، و{ذلك} مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به، وجوز أن يكون {جَزَآؤُهُمْ} مبتدأً ثانيًا والظرف خبره والجملة خبر لذلك، وأن يكون {جَزَآؤُهُمْ} بدلًا من ذلك أو بيانًا والخبر هو الظرف، وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، وليس بشيء {وَقَالُواْ} منكرين أشد الإنكار {أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين {اثنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثًا جديدًا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين.

.تفسير الآية رقم (99):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)}
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} من الأنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا، وقال بعض المحققين: مثل هنا مثلها في مثلك لا يبخل أي قادر على أن يخلقهم، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أولًا بذلك حيث قيل: {خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 98] ولا يخلو عن بعد، وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيدًا آخرين يوحدونه تعالى، ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] وقوله سبحانه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق، ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتأليفها وإفاضة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم {أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا} [الإسراء: 98] بعد قولهم {ائذا كنا عظامًا ورفاتًا} [الإسراء: 98] فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول: إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابًا ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءًا لبدن آخر فضلًا عن أن تصير جزأً أصليًا له، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال: إنه الصحيح، وكذا قال البد الزركشي، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا: إن الله تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن فيكون. وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا: إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الاخشيد إلى أن الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها، وقال ابن شبيب: إنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناءً يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي.
وأبو هاشم واتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه: إن الله سبحانه يخلق فناءً واحدًا لا في محل فيفنى به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه أنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل.
وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة. وبشر المريسي. والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر: إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر. وقال الأكثر والكعبي: إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالًا فحالًا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر. وقال إمام الحرمين: إنه الإعراض التي يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالًا فحالًا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم. وقال النظام: إنه خلق الله تعالى الجوهر حالًا فحالًا فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الاعراض فإذا لم يوالى عز مجده على الجوهر خلقه فني، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودًا لا في محل، ولعل وجه البطلان غني عن البيان. واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظامًا ورفاتًا فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر، وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضًا فناء عرفًا فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر. ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها. ومن الناس من قال: إن عجب الذنب لا يفنى وإن فنى ما عداه من أجزاء البدن لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة». وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» وصحح المزني أنه يفنى أيضًا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت، والخلق منه والتركيب يمكن أي يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصًا في بقائه، ووافقه على ذلك ابن قتيبة، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقًا، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر.
وقال السعد: إنه الحق وهو اختيار أمام الحرمين. وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيًا ولا إثباتًا لعدم الدليل على شيء من الطرفين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد: فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والاعراض ثم يعادان جميعًا أو تعدم الاعراض دون الجواهر ثم تعاد الاعراض فقط؟ قلنا: كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين.
وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعًا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل جدًا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة.
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا} وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلًا للموت يخصه، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة على {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن.
وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظًا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلًا لها لا ريب فيه فلابد منها أي إذا كان ذلك ممكنًا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل عنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم {أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} [الإسراء: 98] وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان عنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لابد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثًا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة.
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولًا فلأنه أقرب، وأما ثانيًا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذٍ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق {فأبى الظالمون} الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة {إِلاَّ كُفُورًا} أي جحودًا.

.تفسير الآية رقم (100):

{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية، و{أَنتُمْ} على ما ذهب إليه الحوفي. والزمخشري. وأبو البقاء. وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ** جعلت لهم فوق العرانين ميسما

وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابًا وتكرارًا بحسب الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناءً على أن {أَنتُمْ} بعينه ضمير {تَمْلِكُونَ} المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذٍ ترتب الإمساك، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم لك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاءً لو فعلًا مضمرًا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك.
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي: إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ: إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة {تَمْلِكُونَ} خبرها وعلى هذا تخرج نظائره.
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم: وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في «لسان العرب»، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولًا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل عنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره.
وجوز أن يكون مضمنًا معنى البخل. وتعقب بأنه ليس بشيء لفظًا ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك {خَشْيَةَ الإنفاق} أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحو عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم عنى واحد، وقال بعضهم: الإنفاق عناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق.
وجوز أن يكون مجازًا عن لازمه وهو النفاد، ونصب {خَشْيَةَ} على أنه مفعول له، وجعله مصدرًا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا لكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر:
ولو أن دارك أنبتت لك أرضها ** ابرا يضيق بها فناء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ** ليخيط قد قميصه لم تفعل

مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عامًا فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلًا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه قد أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة.
وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مباذلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدنا في زماننا ** عن حديث المكارم

من كفى الناس شره ** فهو في جود حاتم

وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} مبالغًا في البخل، وجاء القتر عنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقراتهم وتتسع عليهم فبين سبحانه أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا}
[الإسراء: 90] ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه.
وقال أبو حيان: المناسب في وجه الارتباط أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحًا بذلك لا يطلب منهم أجرًا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إليه إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلى الله عليه وسلم فهي قد جاءت مبنية تباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه. فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث أنها تشعر بحرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم.
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر إحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم راده، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من التعنت والعناد مع رسوله صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلًا: